فصل: 118 الآية الثالثة منها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.117 الآية الثانية:

قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} يوسف: 109.
وقال في سورة النحل 43: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}.
وقال في سورة الأنبياء 7-8: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام}.
للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك} وما أرسلنا قبلك- فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها. والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: {وما أرسلناك من قبلك} فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء.
الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه.
وإذا قال: {وما أرسلنا قبلك} فمعناه: ما فعلنا في الزمان ال\ي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا.
فأكثر ما في القرآن: {وما أرسلنا من قبلك} ولم يجيء بحذف من إلا في موضعين: أحدهما: هذا، والآخر: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام} الفرقان: 20.
فأمل الأول فغنه حذفت منه من بناء على الآية المتقدمة وهي: {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون} الأنبياء: 6 فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي المذكور في قوله: {وما أرسلنا قبلك} وكانت قبل إذا عريت من من موضوعة للزمان المتقدم كله، صار بناءه على ما قبل مذكورا كالتوكيد الواقع ب من في سائر المواضع.
فأما قوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين} فإنما لم يؤكد ب من، لان المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، وهي أنهم يأكلون الطعام وليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم، وأخبر الله تعالى به عنهم في قوله: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة} الفرقان: 21
فإن قال: فقد جيء ب من في قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} الحج: 52 فالقصد ذكر حال الرسول والنبي، وهو المعتمد بالخبر، فأكد مع ذلك ب من.
قلت: القصد ب من في هذا الموضع توكيد ذكر الرسول وذكر حاله. ألا تراه قال: {من رسولي ولا نبي} فجمعهما في نفي ما نفى عنهما إلا ما أثبته لهما بعد قوله: {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} فلما كان المكانان معتمدين بالخبر صح التوكيد وكان المقصود والله أعلم.

.118 الآية الثالثة منها:

قوله عز وجل: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من فبقلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا} يوسف: 109
وقال في سورة الروم 9: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض}
للسائل أن يسأل عما جاء من هذا في القرآن بالفاء، وما جاء منه بالواو، والمعنى المقتضى لكل واحد من الحرفيين؟
والجواب أن يقال: كل موضع تقدم قوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض} فإنه في موضع يقتضي الأول وقوع ما بعد الفاء.
وكل موضع تقدم: أولم يسيروا في الأرض فإنه في المواضع التي لا تقتضي الدعاء إلى السير والبعث على الاعتبار، فيكون ذلك مؤديا إليه، وإنما يكون بالواو عطف جملة على جملة، وإن كانت الثانية أجنبية من الأولى.
فقوله في سورة يوسف: {أفلم يسيروا في الأرض} قبله: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} معناه: كان الرسل من القرى التي بعثوا إليها، فلما طغوا نزل بهم العذاب ما بقي أثره في ديارهم من الخسف والانقلاب، فصار معنى قوله: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} أي لم يكونوا إلا رجالا أرسلوا إليهم فخالفوهم، فاعتبروا أنت بآثارهم ومشاهدة ديارهم لتجنبوا ما يجلب عليكم مثل حالهم.
وكذلك قوله تعالى في سورة الحج 46: {أفلم يسيروا في أرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها} هو بعد قوله: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد} الحج: 45 فكأنه قال: إذا كان كذا فسيروا في الأرض واعتبروا.
وأما قوله في سورة الروم 9: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا اشد منهم قوة وأثاروا الأرض} فإنه لم يتقدمه ما يصير هذا كالجواب عنه، إذ لم يجر ذكر حال أمة من الأمم خالفت نبيها فعوقبت على فعلها، بل الآية التي قبلها قوله: {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} الروم: 8 فكان الموضع موضع الواو، وهذا مع أنه معطوف على قوله: {أولم يتفكروا} وهو بالواو، فكان حملة على ذلك مع اقتضاء المعنى للواو، وهو الواجب.
وقوله في سورة الملائكة 44: {اولم يسيرو في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان لله ليعجزه من شيء}. لم يتقدمه الذين من قبلهم ما يكون هذا كالجواب عنه فلم يحسن إلا الواو، لأن الآية التي قبله ليست في وصف قوم عوقبوا على مخالفة نبيهم، وبقيت آثار بهم من العذاب في منازلهم وديارهم.
وكذا قوله في سورة المؤمن 20-21: {والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقتضون بشيء إن الله هو السميع البصير اولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض} فالآيات التي تقدمت هذه الآية ليس ما يقتضي أن يكون هذا كالجواب له، فلذلك جاء بالواو.
فأما الآية التي في آخر هذه السورة وهي: {أفلم يسيروا في الأرض} المؤمن: 82 فإن ما قبلها يقتضي الفاء، ألا ترى قوله: {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون} المؤمن: 78
فإنه في وصف من بعث من الأنبياء ومجيء أمرا لله فيمن فالفهم وكيف خسر مبطلهم.
فإن قال قائل: فقوله في سورة محمد 10: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم الكافرين أمثالها} لمخ يتقدمه ما يقتضي الفاء.
قلت: قوله: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينضركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} سورة محمد: 7-9 معناه: أن أولياء الله منصورون، وأن الكفار مخذولون فليعتبروا بمن تقدمهم في الكفر ليعلموا أنهم صائرون إلى مثل حالهم.

.119 الآية الرابعة منها:

قوله تعالى: {ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون} يوسف: 109.
وقال تعالى في سورة الأعراف 169: {والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} وكان حق هذه الآية أن تذكر هناك، إلا أنا ذكرناها لما انتهينا إلى هذا المكان، وقد تقدمت نظيرتها، وهي قوله تعالى: {وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} الأنعام: 32.
للسائل أن يسأل في الآيتين عن موضعين:
أحدهما: قوله تعالى في سورة الأعراف: {والدار الآخرة} فوصف الدار بالآخرة، وفي الآية التي في سورة يوسف أضاف الدار إلى الآخرة؟
والثاني: قوله: {خير للذين يتقون} هناك، وفي هذا المكان: {خير للذين اتقوا}.
والجواب عن الأول أن قبله: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى} الاعراف: 169، فقوله: {هذه الأدنى} إنما يعني هذا المنزل الأدنى وهو والدار الدنيا بمعنى واحد فلما جعل الأدنى وصفا للمنزل ذكر الدار الآخرة بعده فجعل الدار موصوفة والآخرة صفة لها، وكل يؤدي معنى واحد، إلا أنه يختص ببعض اللفظ دون بعض لمشاكلة ما قبله وموافقته له.
وأما قوله: {ولدار الآخرة} في يوسف فإن قبله: {أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة} يوسف: 107 والساعة هي الساعة الآخرة، وهي القيامة، فلما ذكرت الدار أضيفت إليها، فكأنه قال: ولدار الساعة الآخرة خير فتقدم كل آية ما كان المذكور بعده أليق به.
والجواب عن المسألة الثانية وهي قوله تعالى: {للذين يتقون} في سورة الأعراف، وقوله: {للذين اتقوا} في سورة يوسف هو أن القوم دعوا إلى الاعتبار بأحوال الأمم الذين أهلكوا في أزمنة أنبيائهم بالنظر إلى منازلهم، وهي خاوية على عروشها ليعلموا أن الدار الآخرة خير لمن اتقى منهم.
وقوله في سورة الأعراف ترهيب لليهود الذين في عصر النبي، وارتشائهم على كتمان أمر النبي د، وترغيب لهم فيها عند الله عز وجل إذا صدقوا ما في كتاب الله عز وجل، والترغيب والترهيب لا يتعلقان إلا بالآنف المستقبل، فلذلك قال: ط: {للذين يتقون أفلا تعقلون}.
وفي هاتين الآيتين مسألة ثالثة، وهي إدخال اللام على دار الآخرة في سورة يوسف، وإخلاؤها منها في سورة الأعراف في قوله: {والدار الآخرة}
والجواب عن ذلك: أن قوله: {ولدار الآخرة} جاء بعد قوله: {فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} يوسف: 109، ومعناه: فيعلموا كيف كان حال من قبلهم، وأن الدار الآخرة خير لهم، فالام هي التي تدخل على المبتدأ فتعلق الفعل، والفعل هو فيعلموا الدار خير، كما تقول: علمت لزيد أفضل من عمرو.
وأما قوله: {الدار الآخرة} في سورة الأعراف فلم يتقدمه اللام، بل قوله: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير} الأعراف: 169 من غير أن يتقدمه ما يجري مجرى التوكيد والقسم الذي يتلقى باللام.
انقضت سورة يوسف عن أربع آيات وخمس مسائل. اهـ.